فلق الصباح
صناعة التفاهة
علي بتيك
أشير في البدء إلى أن “صناعة التفاهة” عنوان لكتاب مؤلفه آلان دونو وفيه تحدث عن الانحدار الأخلاقي في الخطاب وفي الثقافة والحضارة، والجامعات، والاقتصاد، وفي السياسة وأورد نماذج لأمثلة تافهة مسيطرة على العالم كما تصدى للرأسمالية التي تسعى للهيمنة الاقتصادية والثقافية والحوكمة لتحيل الإنسان لمجرد كائن استهلاكي.وخلص الكاتب بفصوله الأربعة إلى أن هذه الصناعة تهدف لإسباغ التفاهة على كل شيء.
وبإسقاط الرؤية الفلسفية “لصناعة التفاهة” على واقعنا السوداني يمكن الحديث عن نسخة سودانية فصولها متعددة في محاور التعليم والثقافة والسياسة والمجتمع. لكنني سأتتطرق هنا لملمح وآحد يخص المحور السياسي المنتج لأزمة السودان القديمة المتجددة. فبالتتبع التأريخي نجد أن صناعة التفاهة هي التي ظلت تغذي العنف وتؤجج الصراعات القبلية والجهوية وتفرخ الحركات المتمردة منذ العهد الاستعماري أي ما قبل الاستقلال ودولة 56 المفترى عليها.إذ لم يكتفي المستعمر بسياسته المشهورة “فرق تسد” بل صاغ قوانين تؤطر لها كما في الحالة الجنوبية “قانون المناطق المقفولة” الذي كرس للفصل العنصري والثقافي بين الشمال وجنوبه بما فيها دارفور وجنوب كردفان قبل أن يقتصر على جنوب السودان فقط في عام 1922م وشهد شاهد من اهلها إذ وصفها أنطوني سيلفستر “بالأبارتايد الجنوبي”.
ثم انتقل الأمر إلى غرب السودان وبنفس المسميات “الجلابة” واولاد البحر أي السودان النيلي و”دولة 56″ أو ماعبروا عنه بصراع الهامش والمركز وهو الخطاب التعبوي الذي عزفت على اوتاره كل الحركات المتمردة وإن تدثرت بشعارات العدالة والتحرير وتسربلت بخطاب المظلومية من بولاد إلى دقلو.وهي محاولات ساذجة لتحميل الشمال وزر أبنائها الذين شغلوا مواقع قيادية في الدولة منذ الاستقلال والسودنة وهم الذين ارتقوا لأسباب تتعلق بالعلم والكفاءة المؤهلة وضربوا المثال والقدوة في أداء الأمانة لكن هؤلاء قاموا بحصر كل هذه الكوادر في كتابهم الأسود الذي ألقى بظلاله على كل الاتفاقيات التي آخرها اتفاقية جوبا المائلة بنودها وكأنها قد سعت لتحميل الشمال فاتورة أوهامهم التاريخية.
لوقف الاحتراب واستنزاف الدولة ومقاومة صناعة التفاهة ..لابد من ابتدار مشروع وطني ووثيقة جامعة تفضي لإنتاج دستور دائم وقبل ذلك نحتاج لحوار وللمصارحة قبل المصالحة ومن ثم تعزيز مناهج التربية الوطنية وإعادة كتابة تأريخ السودان الحديث والمعاصر بأقلام محايدة وأحبار نظيفة.




