مقالات

حسن فضل المولى يكتب … الحُزن يماني

فجاج برس

حسن فضل المولى

الحُزن يماني ..

اليمنيون أهل فراسة ،
و أهل شجاعة ،
و أهل صدق ،
و أهل حكمة ،
و أنا لحسن حظي يوم أن تخرجت
من الجامعة زَيَّنَ لي إخوةٌ أماجد
فكرة الذهاب إلى اليمن للعمل ..
و يممتها وجهي و ملء جوانحي ،
( لا بد من صنعاء و إن طال
السفر ) ..
و ملء خاطري قصة ( بلقيس ) ،
ملكة ( سبأ ) ، و قد ألقى إليها
( الهدهد) بكتاب سيدنا
( سليمان ) ، عليه السلام ،
و هي تنبىء قومها ..
( قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ
كِتَابٌ كَرِيمٌ .
إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) ..
و رأيها في الملوك ،
و هديتها الاستكشافية ،
و دهشتها عندما جاءت ،
و إسلامها ..
( قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا
رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن
سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن
قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ
نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ..

و قضيت فيها ( عشرة أشهر ) بين
الجبال و الوديان و الحواضر ..
خالطت أهلها ،
فلبست مما يلبسون ،
و أكلت مما يأكلون ،
و ابتهجت كما يبتهجون ،
يعني ،
و أنا في ( اليمن ) ..
غشيت مجالس ( القات ) ،
و إن كنت لم أمضغه ، و تناوُل
القات يُعرف ( بالتخزين ) ،
و تنتابهم في هذه الأثناء حالة
من الخمول و الشرود و الارتحال
إلى عوالم وردية زاهية ..
و استهوتني ( رقصة البرع ) ،
سيدة الرقصات اليمنية ..
و شربت الماء الذي يتفجر من
بين الصخور ..
و سرت ساعات راجلاً أعتلي
الجِبال ..
و أكلت ( بنت الصحن ) ،
و مددت يدي بلهفة للشيخ
( علي ناجي ) ، و هو يوزع علينا
اللحم الشهي في لُفافة من
الخبز ، و هي عادة درجوا عليها
كآخر فقرة في المائدة ..
و نعمت بمحبتهم إذ أنهم
يحبون السودانيين حباً جمَّا ،
و يفاخرون بذلك و يُجاهرون ..
و كنت كثيراً ما أصادف من
يميل عليَّ عندما تطالعه
( سودانيتي ) فينشأ يحدثني عن
أصوله السودانية من جهة ( الأم )
يوم أن كان ( لأبو يمن ) في
( السودان ) ( شَنَة و رَنَة ) ،
ففي ( العاصمة ) أي ( دكان )
ناصية تجده ( ليمني ) ، تتوهط
عند مدخله ( قِدْرَة الفول ) ،
مترامية الأطراف ..
و أذكر و أنا في ( الدامر الثانوية ) ،
كنا نقصد يوم الخميس ( عطبرة ) ،
مستهدفين ( فول اليماني ) و مآرب
أخرى ..
و ياااا لها من أيامٍ و ليلات ..

و أهل اليمن فصحاء بالفطرة ،
و هي فصاحة مُسْتَلَذة و مُستَظْرَفة ..
و شعراؤهم أقحاح فصاح ..
هذا هو الشاعر اليمني
( عبدالله البردوني ) ..
( لا تحسَبِ الأرض عن إنجابها
عقِرت
من كل صخرٍ سيأتي للفِدا
جَبَلٌ
فالغُصنُ يُنْبِتُ غُصناً حين
نقطَعُهُ
و الليل يُنجب صبحاً حين
يكتملُ) ..
و هذا هو الشاعر اليمني
( عبدالعزيز المُقالح ) ..
( يابيتاً قديماً ساكناً في الروح
يا تاريخنا المجروح
و المرسوم في وجه النوافذ
و الحجارة
أخشى عليك من القريب
و دونما سبب
أخاف عليك منك ) ..

و شيخ القبيلة هو المُطاع بأمره ،
فاقتربت من الشيخ ( علي ناجي ) ،
في بلدة ( يَحِير ) في ( لواء إب ) ،
و زرت شيخ ( قبائل حاشد )
الشيخ ( عبدالله الأحمر ) ،
و عند و فاته رافَقْنا الأخ ( جمال
الوالي ) لتقديم و اجب العزاء ،
لما تربطه بهم من صلات ، خاصة
إبنه شيخ ( حميد ) ،
و كان معنا الزعيم ( ضقَل ) ،
و هو الوحيد الذي كان يحمل
( حقيبة ) بِنِيّّة قضاء ( رأس السنة )
في ( صنعاء ) ، والذي كان على بعد
يومين ، و عاد معنا أدراجه عندما
أدرك أن لا ( رأساً )هناك
و لا ( سنة ) ..

و طبيعة ( اليمن ) القاسية جعلت
أهلها أشداء لا يهابون الموت ،
فيقاتلون الغُزاة ( مائة عام ) دون
أن تلين لهم عزيمة ،
و هم بالرغم من ذلك يحتفون
بك و يأنسون إليك و يكرمونك
حتى ترضى ،
و يبذلون لك من القول أرَقه ،
و من الطعام أطيبه ،
و من المجلس أوطأه ..
روى أبوهريرة عن الرسول ﷺ
( أتاكم أهل اليمن ،
أرَّق أفئدة ،
و ألين قلوباً ،
الإيمان يمان ،
و الحكمة يمانية .. ) ..
و علماؤهم الأفذاذ ،
و هم كُثُر و شوامِخ و نوابغ ،
تجد لحديثهم حلاوة ، و هم
يتصدون لأعقد المسائل الفقهية ،
و كثيراً ما تبدر عنهم مواقف
طريفة و ساخرة و لاذعة ،
تجعلك لا تمل حديثهم ..
فمن طرائف مفتى اليمن الشيخ
( العمراني ) ، كان إذا قاطعه أحد
أثناء الدرس ضرب لهم مثلاً
( بنصرالدين جحا ) ، فقد كان
يبيع ( الخَل ) على حِمارٍ له ،
و كان كلما نادى :
( الخَل الطيب ، من يريد الخَل
الطيب ؟) نَهَق ( الحمار ) ،
و كلما سكت سكت ( الحِمار ) ، فأزعجه ذلك ، فقال ( لحماره ) :
من يبيع الخل أنا أم أنت ،
اذهب أنت و واصل في البيع ) ،
و تركه و ذهب ..
و أتمنى أن يُحدِّث عن ( اليمن ) ،
و عن عجائب اليمنيين و غرائبهم ،
أستاذ الإعلام الدكتور ( عثمان
أبوزيد ) ، و قد ترافقنا يومها ،
و تآزرنا ، و ثُلة من الصحاب ..

إن الذي دعاني لهذه الاستطرادة ،
هذا التسجيل ، لهذا ( اليمني )
الفصيح ، و الذي أيقظ في
ذاكرتي شجوناً و شؤوناً عشت
بها أياماً ما أنضرها و أحلاها ..
و عندما فقدته ، و أجهدت
نفسي بحثاً عنه أسعفني به
أخي ( عادل أحمد إدريس ) ،
و ( عادل ) لا يترك شاردة و لا
و اردة إلا و أودعها كِنانته ..
و دونكم هذا الطرح الرائع
لمفهوم ( الحُزن ) ، و كيف أن
الذي لا يحزن يفتقر إلى أبسط
المشاعر الإنسانية ،
و هو ما ذهب إليه الشيخ
محيي الدين بن عربي :
( الحُزن إذا فُقِد من القلب خرب ) ..
و الحديث هنا ليس المقصود به
الحَزن بفتح ( الحاء ) ، و الذي هو الصعب ،
( اللهم لاسهل إلا ما جعلته سهلا ،
وأنت إن شئت تجعل الحَزن
سهلا ) ..
و أعني هنا الحُزن بضم ( الحاء ) ..
و الحُزن ،
ما كان جزعاً و خوفاً مما سيقع ،
و تسخُّطاً على أقدار الله ، فهو
مذموم ، و يلزم الاستعاذة منه ..
و الحُزن ،
ما كان احساساً بالوجع لفقدٍ
أو ضيقٍ أو وقوع مكروه ، فهو
شعور إنساني يلازم الإنسان في
كل أحواله و أطواره ..
و بهذا الفهم ،
لا تطلب من أحدٍ أن لا يحزن ،
و لا تستنكر منه ذلك ، إن فعل ،
و لكن تمنى له أن لا يجزع ،
و لا يخاف ،
و لا ييأس ،
و لا يقنط ،
و لا ينكسر ..
و في كل الأحوال ،
( إنّ اللهَ بالِغُ أمره قد جعل
اللهُ لكلِ شيءٍ قدْرا ) ..

و أيضاً ،
الحُزن سوداني ..
إذ كُلٌ عنده جرحٌ وفَقْدٌ
و ما في الناس من شخصٍ سليم ) ..
والسلام ..
حسن فضل المولى ..
٢ نوفمبر ٢٠٢٤ ..

فجاج برس

صحيفة سياسة اجتماعية شاملة مستقلة ، تدعم حرية الرأي و الرأي الاخر، وحرية الاديان ، ونبذ خطاب الكراهية و العنصرية و القبلية و الجهوية و مكافحة المخدرات ، و تدعو للسلام و المحبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى